آراء الشهيد موسى شعيب في الفن والشعر
ما زلتُ أصر على أن الفن الحقيقي، في هذا الزمن المحرور يجب أن يتزاوج والسياسة. ما زلتُ أصر على أن الفنان الحق هو من لا يوقفه شيء عن العطاء. و الفن الأصيل لا يمكن أن يمارس بالهواية، الفنانون الهواة قد يقدمون أعمالاً جميلة، قد يومضون، ولكنهم لا يستطيعون أن يتوهجوا باستمرار.
قد تكون المرارة الناجمة عن الإحساس بالمنفى – عن مطارح الفن والوجد، هي حد ذاتها النبع الثري للفن الحقيقي المتوهج. فنحن كجيل عربي، ألقيت على عاتقه تركة عهود التخلف وأعباء التحرر القومي والاجتماعي، لا مناص لنا من مواجهة قدرنا هذا بما نملكه من إختيارات.
* * *
أن تكون شاعراً يعني أن تحترف الشعر، عفواً أن تقيم فيه. وأن تقيم في الشعر، يعني أن يصبح الشعر مكانك وزمانك. تحتويك لغته، تستهلكك همومه. تمسي القصيدة جواز مرورك إلى الدنيا، هويتك في العالم، ولا بأس أن تصبح بديلا ً عن الوطن و القضية، تعدو خلفها بعيدا ً عن الوطن و القضية. غير ذلك تبقى مشروع شاعر، بعضه، هاوي شعر تلامسه أو تعانقه للحظة، ثم يفلت منك. ذاك ما يجهد مترفو الكلمة لإقراره، لجعله ناموساً للشعر. وذاك ما يقبل عليه عديدون من طيبي النوايا شعراء وقراء، يستمرئون فيه طعم الكسل ورخاء اللامسؤولية.
وفي حالنا نحن، شهود المأساة، نرى في الشعر وجه هذه المأساة، وفي الشاعر صوته. نجهد أن نمثل الحضور الإيجابي للإنسان قبالة مصيره. وحسبنا أن تكون القصيدة جزءاً من هذا الحضور لا بديله الكامل. نرفض أن يكون الشعر تكفيراً عن ذنب، غطاءً لإنسحاب. نقاتل بالكلمة، أجل، نشحذها مِدْية، نصهرها رصاصة، ولا نرضاها بديلا ً لهذه و تلك. نفهمها خبزا ً، وربما خبزا ً أسمر لا بسكويت.
* * *
الشعر في رأيي ليس وسيلة للتعبير عن معاناة. انه هو المعاناة في حالتها الأصفى وفي كامل انصهارها باللغة. لماذا؟ لأن الشعر هو لحظة التقاطع بين المحدود و المطلق، بين الإمكانية و الطموح، بين الواقع و الحلم. وهو بهذا المعنى صورة للقلق الأبدي الذي يساور البشرية منذ بدئها دون أن تستطيع الخلاص منه في نزوعها الغريزي نحو الكمال.
الإنسان في العلوم النظرية و التطبيقية يجسِّد نزوعه هذا أعمالا ً و إكتشافات و إنجازات مادية ترد على القلق "اليومي"، وإن هي أصبحت فيما بعد جزءا ً من الحيز "المحدود" الذي يجدّد السعي لتخطّيه.
أما في الشعر والفن عموما ً، فالقلق "مطلق" و الإكتشاف "مطلق". ولحظة "الكشف" الفني ليست شيئا ً للتخطي، بل هي زمن جميل يغري بالتشبث أو –على الأقل- سؤال يغري بالإلحاح أكثر مما يبحث عن الإجابة. من هنا فإن وظيفة الشعر في نظري هي نقل المعاناة الإنسانية إلى أرقى و أشمل حالاتها؛ من خلال الإمساك بلحظات التقاطع بين المحدود و المطلق. وفي هذا الإطار تغدو اللغة بصفتها "المحدود" و "الممكن"، محطة التقاطع تلك. وعلى الشاعر أن يجسّد فيها شمول المعاناة و رقيّها. ولن يتم ذلك بدون أن يعيد إلى اللغة لحمها و دمها و شرايينها، أعني تاريخها "الإنساني"، بحيث تصبح اللغة جسد المعاناة لا وعاءها، ويصبح دورها خلقا ً و حضورا ً، لا سردا ً ووصفا ً. على الشعر أن يعيد توحيد الناس في اللغة ليوحّد رؤيتهم للحق والخير و الجمال، ويؤهلهم لقلق أرقى و أشمل.
* * *
وعن علاقة الفن و السياسة، فأنا أومن أن المفاهيم الفنية تجاوزت مقولات "الفن للفن" و "الفن للسياسة". كما تجاوزت القيم النقدية في عصرنا هذا تلك التقسيمات الساذجة للأدب و فنونه، والشعر و أغراضه. لماذا؟ لأن نظرة الإنسان إلى نفسه تغيرت. الذين أوجدوا تلك التقسيمات إخترعوها بأنفسهم، ولم تكن موجودة في الشعر. الشعر هو الإنسان في معاناتة لوجوده. كيف يفهم الشاعر ذلك الوجود؟ كيف يتعامل معه؟ ما الذي يستحوذ عليه من قضايا؟ إلى أية فلسفة ينتمي وعن أية حقائق يصدر؟ ذلك كله شأن القراء و شأن التاريخ فيما بعد. المهم أن يستطيع الشاعر تأكيد حضوره الإنساني الراقي والمتميز في مسيرة الكمال الأبدية.
أما عن مسألة أن يخدم الفنان أو الشاعر خطا ً سياسيا ً محددا ً، فهذا أمر يتوقف على صدق انتمائه و معاناته من جهة، وعلى مدى شمولية و رقي تلك المعاناة من جهة أخرى. الشرط الأساس في هذا كله هو أن يكون الفنان مخلصا ً للفن بمقدار إخلاصه لإنتمائه السياسي، وأسمح لنفسي أن أقول إن إخلاص الفنان لهويته السياسية الحضارية لا يشكل مقياسا ً لإخلاصه الفني وحسب، بل هو بالضرورة ضمانة لذلك الإخلاص.
إنني كحزبي، أؤكد أن انتمائي السياسي يزيدني حرارةً في الدفاع عن قضية الفن، وفي الإلتزام ببلورة قيم شامخة للفنون العربية المعاصرة تسمح بتفجير مواهب أمتنا و تصقل نفوس شعبنا، وتعمّق فيها حـّس الجمال و الحقيقة.
التسميات: فن، شعر، نثر، هوية سياسية، قضية، الشاعر
0 تعليقات:
إرسال تعليق
الاشتراك في تعليقات الرسالة [Atom]
<< الصفحة الرئيسية